العم الغالي / عبدالعزيز الغنام – 1

نبدأ على بركة الله ما وعدناكم به في التدوينة السابقة.

البداية

طفل صغير عمره 11 سنة، شعر من الداخل بالمسؤولية، شعر أنه رجل يتحمل مسؤولية إعالة أهله بعد وفاة أبيه. المحن تخرج رجال، لكن بدون الهمّ الداخلي من القلب لا شيء يحدث فهناك الملايين واجهوا محن وبقوا في مكانهم وماتوا في مكانهم.

والده رحمة الله عليه كان يعمل في دبي، حيث فتح محلات لبيع معدات السفن وكان في نفس الوقت يقوم بتهريب السلاح لان الاستعمار البريطاني كان يمنعه وقتها. كان ذكيا جداً في ذلك، فقد كان يبيع ويشتري الخيل، ويخفي السلاح في شلفان فيها تبن غذاء للخيل، وينقله من دول لأخرى. خبّر عنه مرة، وكان وقتها الخيل وعلفه موجودان سينقلهما في المركب، فهرب واختفى فترة وعاد بعد ذلك.

كان خاله، أخو أمه، يعمل في دبي كذلك. وفي يوم من الأيام خرج أبيه مع خاله في طريقهم إلى المركب حيث كان ينوي أبوه العودة للكويت، فطلب منه الخال أن ينتظره اسبوع ليذهبا سويا. فرجع. وفي يوم آخر دخل إلى مخزن خاص بالخال، فاذا بمجموعة أكياس تسقط عليه وتسبب له خلل في النخاع الشوكي توفي على أثرها رحمه الله، وقد كان عمره 61 عاماً، في عام 1941.

الصورة تجمع المرحوم أحمد الغنام وأولاده من اليسار محمد، عبدالعزيز، يوسف الغنام

كان خالهم مسؤولا عنهم بعد وفاة أبيهم، والذي نقل تجارته إلى البصرة من دبي. وأخذهم؛ العم عبدالعزيز وأخيه محمد إلى الزبير معه حيث التحقا  بمدرسة أسسها الشنقيطي رحمه الله، وقد كان العم عبدالعزيز حافظاً لبعض من القران، فأدخلوه الصف الثاني بدل الأول. ودرس حتى الصف الثالث.

في عام 1964 وبعد عودتهم للكويت لم يرجعوا للدراسة بعدها، وقد توفي خالهم في العام نفسه. فقد كان الشغل الشاغل هنا عند العم عبدالعزيز، مسؤولية إعاله أهله، ذلك الطفل الصغير، الذي لم يعش طفولة كباقي الأطفال، والمسؤولية والشعور بها مرتبطان بالرجولة فلم يكن يتقبل أن يطلب من أحد شيئاً، فنهض بنفسه وتحرك من أجل أن يعيل أسرته.

كان يؤمن أن من يتوكل على الله فهو حسبه، ولكل مجتهد نصيب، فلم يكن يتوكل على أحد من الناس، إلا الله سبحانه.

بدأ أول عمل له عند الأخ عبدالله سليمان العقيلي، والذي كان يملك دكانا صغيراً. واضطر للسفر لمدة 6 أشهر وطلب منه إدارة المحل بحيث تكون الأرباح مناصفة بينهم. وقد كان يأخذ من المحل عمال يعملون في شركة النفط مواد للعمل، وكان العم عبدالعزيز يشتري من التجار عن طريق المسابعة، وهي أن تأخذ أول الاسبوع وتدفع آخره، فقط كانت الثقة موجودة وقتها، فكل هذا بدون سندات أو ضمانات أو صكوك، فقط عن طريق التسجيل بالدفتر. ويذكر من التجار محمد الوزان، وشريكه عباس آغا علي يرحمهم الله.

بعد عودة الأخ عبدالله، طلب من العم عبدالعزيز أن يبقى لكنه رفض لأنه شعر أن هذا المجال ليس طموحه الذي يرجوه ويسعى إليه، فقد كان يملك أفكاراً أكبر من هذا المجال فكانت تلك بداية المغامرة وبداية الطريق الصحيح. مع أنه يحتاج أن يعيل أسرته، لكنه كان شجاعاً في معرفة ماذا يريد، وكان يثق بحدسه دائما، وكان يبحث عن الفرص ولا ينتظرها.

العمل في العراق

وظفه زوج احدى أخواته محمد السعد عند خالد عبداللطيف الحمد حيث كان تجارتهم في البصرة وكان يشرف عليها العم حمد الحمد. وكانوا يعملون في مجال العقار، وبيع وشراء الحبوب، الشاي، القماش، السكر وغيرها.

انظر الان، واسمع واقرأ عندما يكون الفائز الناجح مركزاً تركيزاً ليزرياً على هدف لديه، كيف تكون تصرفاته كلها متناغمة مع الهدف، وإن كانت عكس ذلك فهذا دليل على غياب الجوع والتعطش والرغبة النارية لتحقيق الهدف هذا.

لقد كان يتقاضى راتباً قدره 6 دنانير عراقية لعمله كمراسل. وكان السكن والمأكل عليهم. كنت أسكن في المكتب نفسه أنا والعامل لكل منا غرفة. وجبة الغداء كانت عندهم، وكانوا يعطوني 150 فلس للافطار وربع دينار للعشاء.

لأن لديه هدف كيّف نفسه على التوفير. تصرّف، وجد حلاً وطريقة، لأن العقل مركز ويعرف ماذا يريد. عوّد وتأقلم وتحمل وسهّل الأمور والحياة ولم يصعب ويعقد الوضع والظروف، لم يقل يكفي أن أوفر لأهلي لكن يجب أن أكون مبذراً على نفسي، لا. لقد قرر أن يكون افطاره 5 أيام في الاسبوع عبارة عن كوب حليب بمقدار 20 فلس، وخبزة ب 10 فلوس، والشاي يشربه مجاناً من المكتب. واليومين المتبقين من الاسبوع إفطاره بيض وخبز بدون حليب، و اليوم الآخر كبدة أو قلب مع خبزة. والعشاء لخمس أيام مثل الإفطار حليب وخبزة ويوم كان يأكل خبزة ورأس الخروف (باجا) واليوم الآخر خبز وشيش كباب، يعني كان يوفر باليوم ربع دينار وكانت 150 تكفيه للإفطار والعشاء. أي كان يوفر 7 دنانير ونصف في الشهر، أكثر من راتبه الذي كان يتقاضاه!!!

لقد كانت ملابسه بسيطة لكن دائما نظيفة، وكان يغسلها ويقوم بكيّها وينظف حذائه بنفسه. بل وكان ويساعد العامل في تنظيف المكتب مع أن ذلك ليس من عمله.

استمر في وظيفة المراسل لمدة سنة ونصف، وبعد ذلك قاموا بترقيته آل الحمد ليكون أميناً على الصندوق. وقد كان ينقص منه ربع أو نصف أو بعض الدنانير، وكان يشعر بقلق ولم يكن مرتاحاً، وطلب من آل الحمد أن يعفوه من هذه الوظيفة، وعندما سألوه عن السبب وأخبرهم عن النقص، قالوا له إن هذا بسيط جداً هناك من ينقص منهم 10 15 و20 دينار، لكنه أصر وأعفوه. وأعطوه صندوق الأمانات. ماهذا الصندوق؟

كان هناك الكثير من التجار الكويتيين يهرّبون العملات والذهب والتومان بواسطة أصحاب سيارات ينقلون الركاب بين الكويت والبصرة، فكانوا يحتاجون لأماكن تخزينها، فكانوا يضعون لهم ما يريدون من أمانات في هذا الصندوق مكتوب على كل أمانة اسم صاحبها. ولم تكن مجموعة قليلة، و يذكر منهم: عبد العزيز الفهد، عبدالعزيز العويش، عبدالله الخريف، جاسم الحيدر وعبدالله الفهد وسعود محمد الدوسري.

وبالإضافة إلى ذلك، كان في منصب مساعد مسؤول وزن، أي في قسم الميزان، وكان يتقاضى نفس الراتب، والمقصود بالعمل في الوزن أو الميزان هو أن  آل الحمد كانوا يصدرون القمح والشعير إلى أمريكا والتمور إلى أفريقيا والهند وباكستان والرز إلى دول الخليج العربي، فكانوا يقومون بتسجيل وزن كل كيس يخرج.

لقد كان الكويتييون يتاجرون بالعملات، ولكن لأنهم كانوا مراقبين كان العم عبدالعزيز وسيلة نقل بينهم وبين الصرافين، وقبل أن يبدأ بهذه المهمة استأذن معازيبه الحمد أن يسمحوا له بذلك، ووافقوا لأن ذلك خارج ساعات العمل معهم، وقد كان يتقاضى مبلغ من الصرافين والتجار كذلك. ويقول: أن لله الفضل والمنة ما كنت أكسبه من هذه المهمة يعادل أربعة أو خمسة أضعاف راتبي الشهري.

الهدف واضح، فيركز العقل، ويصبح التفكير إبداعياً وذكيا، فيجد فرص لتحقيقه، لا يجدها المشتت أو الذي لا يعرف ماذا يريد أو يريد كل شيء أو يريد مليون شيء في نفس الوقت.

ويذكر حادثة حصلت معه، حيث أنه مرة من المرات قام بربط حزام داخله ذهب على بطنه وركب التاكسي لكي ينقله إلى مكان الصرافين وعندما وصلوا انفك الحزام ولأنه خاف أن ينكشف أمره أخبر التاكسي أن يرجع وتظاهر أن الصراف غير موجود و في طريق العودة أحكم ربط الحزام ونزل من التاكسي وركب آخر ليرجع للصرافين. حكمة وتصرف.

طبعاً من هذه الأعمال، وهذا الجهد، والحكمة، كان يجمع ويوفر المال. وقد كان يرسل لاهله مصروف كل شهر ويشتري لهم الملابس وبعض الحاجيات ويزورهم في السنة مرة، لكن المراسلات مستمرة بينهم. عندما وصل أول توفير له مبلغ 100 دينار، وكم كان فرحاً بهذا الانجاز الرائع، فأراد أن يستثمره ويتاجر فيه فأعطاه عبدالله الفهد ليشتري به بضاعة. و قد كان مفهوم البضاعة في السابق هو أن التاجر يمنح شخص آخر مبلغاً من المال أو كمية من البضاعة التي يتاجر فيها والشخص الآخر يعمل بين الكويت وبلدان أخرى، والربح مناصفة بينهما، والحمد لله جاءه من ورائها خير ولله الفضل و المنة، كما قال.

الذي شجعه أن يغامر ويعطي أول توفير له لعبدالله الفهد هو سمعة الرجل ومعرفة العم عبدالعزيز به شجعاه على أن يغامر، ولا بد من المغامرة في التجارة، وإن خسر لن تكون النهاية لبل ستكون البداية لكن بقوة أكثر. هكذا كان يحدث نفسه. والحمدلله أن الله وفقه في هذا القرار.

نكتفي بهذا القدر اليوم، ونكمل المرة القادمة عن رجوعه للكويت. هل من سؤال؟ : )


1 فكرة عن “العم الغالي / عبدالعزيز الغنام – 1”

  1. Pingback: العم الغالي / عبدالعزيز الغنام – 2 | مدوّنة ميّ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *